سليمان من الفاتيكان خلال تقليده وسام الصليب الأكبر: مستقبل المسيحيين في العالم العربي لا يكون من خلال حماية عسكرية أجنبية وليس في التماهي مع الأنظمة الظالمة والاستبدادية
كلمة الرئيس العماد ميشال سليمان من القصر الرسولي في حاضرة الفاتيكان في احتفال تقليده وسام الصليب الأكبر للبابا بيوس التاسع من رتبة فارس، من قبل صاحب النيافة الكاردينال بيترو بارولين، امين سر دولة حاضرة الفاتيكان، بحضور نيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، القائد الأعلى للجيش الإيطالي الجنرال كلاوديو غراتسيانو، نائب رئيس الحكومة السابق اللواء عصام أبو جمرة، سفير لبنان في الفاتيكان العميد جورج خوري، المعتمد البطريركي لدى الكرسي الرسولي في روما المطران فرنسوا عيد، الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية الأباتي طنوس نعمه، الرئيس العام للرهبنة المارونية المريمية الأباتي بطرس طربيه، الرئيس العام للرهبانيّة الأنطونيّة الأباتي داود رعيدي وأفراد العائلة وعدد من الأصدقاء.
صاحب النيافة الكاردينال بيترو بارولين امين سر حاضرة الفاتيكان، اصحاب النيافة السادة الكرادلة، صاحب الغبطة والنيافة السيد البطريرك، أصحاب السيادة والسعادة، السيدات والسادة ..
لا يسعني توجيه الشكر لكم بما فيه من الكفاية، صاحب النيافة، للشرف الذي تفضلتم به تجاهي من خلال تقليدكم اياي، باسم صاحب القداسة البابا فرنسيس، وسام الصليب الأكبر للبابا بيوّس التاسع من رتبة فارس. وإذ يغمرني شعور الفرح ووافر الاعتزاز، فإنني اود، من خلال شخصكم، الاعراب لقداسته عن اخلاصي البنوي وكامل امتناني.
لا يمكن لمبادرته هذه الاّ ان توطّد مسيرتي على الدرب الذي اخترت، وهي تبث في نفسي مزيداً من الشجاعة لاكمال هذه المسيرة قُدماً. انها لَدَفعٌ حيّ في ذاكرتي لذلك النداء الذي اطقه البابا القديس يوحنا-بولس الثاني: "لا تخافوا!"
السيدات والسادة، منذ اليوم الذي وطئت فيه اقدام السيد المسيح تراب أرضنا، رافعاً ايّاها الى مصاف الأرض المقدسة، ولبنان لمّا يزل وفيّاً لوعود معموديته في ان يكون أرض الحوار؛ ارض الضرورة. وهو، قبل كثيرين، تمكّن وبما لا يخلو من الصعوبات، من التأكيد انّ الدين هو المكّون الطبيعي الذي يذكّر انّ الاصغاء إلى الله شرطٌ للبحث عن الخير العام بين البشر. ولأجل هذه الغاية، فإنّ الدين قوة من أجل السلام لا لغايات حروب.
وهل يغيب عن بالنا مدى إعجاب اصحاب القداسة بلبنان؟ من "لبنان-النسر" لبيوّس الثاني عشر الى "لبنان- الأرض المختارة" ليوحنا الثالث والعشرين؛ ومن لبنان "البلد المميّز" لبولس السادس الى "البلد النبيل" ليوحنا-بولس الأول؛ ومن "لبنان-الرسالة" ليوحنا-بولس الثاني الى "لبنان-المثال... الحاضر في قدس اقداس الله" لبنديكتوس السادس عشر، الى "لبنان الغالي" للبابا فرنسيس... هي كلّها خلاصة اعجاب وتقدير متواصل من قبل لكرسي الرسولي لالتزام لبنان المزدوج: تحقيق نظام سياسي يقوم على مبدأ التعايش بين المسيحيين والمسلمين على أساس من المساواة من جهة، وتوطيد احترام حريات المعتقد والرأي والتعبير، فضلا عن الحريات الأخرى المعروفة في الأنظمة الديمقراطية، من جهة اخرى.
لقد كرّس اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب، التزام لبنان هذا، كبلد استثنائي في المنطقة. الاّ انّه من الواجب مواصلة حمل تحديّه هذا من خلال الحوار، بهدف القضاء على أي هاجس خوف او ظلم او حرمان لدى مكوّنات الأمة اللبنانية. ذلك انّ لا مناص لترّقي الأمم الاّ من خلال توطيد اسس الثقة المتبادلة والتوازن الحقيقي، الكفيلة وحدها بترّسيخ دروب الوحدة.
لقد عملتُ، خلال فترة ولايتي الرئاسية، بكلّ ضمير حيّ، لدرء شبح التطرّف والانقسام عن وطني، وصولاً الى اقرار "إعلان بعبدا" الذي حظي بدعم جميع المكونات اللبنانية. وهي ادركت، او ستدرك، انّ هذا الاعلان يحمي لبنان كما يحمي جميع ابنائه.
ها نحن منذ يومين احتفلنا بذكرى استقلال لبنان. ولَكَم ودَدتُ أن يكون واقفاً الى جانبي، فيما القى هذا الشرف الكبير، الرئيس الجديد للجمهورية أو من انتدبَه لتمثيله. وإنّي من هنا، بالقرب من قبر هامة الرسل، وقبالة تمثال القديس مارون، أجدّد ندائي إلى جميع الأطراف اللبنانية، وخصوصا الموارنة منهم، لوضع المصالح الشخصية جانباً والمبادرة فوراً الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
صاحب النيافة، في زمن الألم هذا، ما عساه يقول لبنان، الذي لمّا يزل يبحث عن دروب تأكيد ذاته، الى إنسانية المشرق المضطربة؟
انّ الشرق الأوسط اكثر من منطقة. هو المنزل المشترك. والمسيحيوّن في قلبه هم الجزء الأصيل الذي لا يتجزأ ابدا، وقد التزموا دائما قضاياه المحقّة. وها هم اليوم، لا يبغون لأنفسهم أكثر ممّا يريد الآخرون لذواتهم. في المقابل، هم لا يقبلون أقلّ ما يتطّلبه الآخرون.
انّ لبنان لا يمكنه ان يسلّم برؤية الأراضي المقدسة تفرغ من ابنائها المسيحيين. وها إعلان يهودية الدولة العبرية، ومهاجمة المسجد الأقصى في القدس، وهو من اسمى الأمكنة المقدّسة للإسلام، من قبل اسرائيل، ودحض حق الفلسطينييّن باقامة دولتهم الخاصة بهم، افعال كلّها ضد منطق الصيرورة البشرية، وهي بأي حال لا يمكن أن تجلب السلام.
انّ الحرب التي اندلعت منذ نيّف وثلاث سنوات في سوريا اغرقت لبنان بمدَّ نزوح جماعي للاجئين يفوق قدرته الاستيعابية. وهو نزوح بات يهدد بزعزعة اسس الاستقرار فيه. ما يستدعي مناشدة المجتمع الدولي، بدعم من الكرسي الرسولي، ليس فقط لمواجهة تداعياته، انّما لتعبئة الجهود كافة من اجل العمل على اعادة اللاجئين إلى وطنهم.
وإنّ أصولية إرهابية، غريبة عن الديانة الإسلامية، قد ألهبت ما من حولنا. اصولية ارغمت، بفعل تفشي هدر الدماء الذي حملته، الآف المسيحيين على الهجرة من مسقط رأسهم في العراق وسوريا. وهي حاولت مراراً وتكراراً، تهديد الوجود المسيحي في لبنان وتغيّير وجه مشرقنا المؤنسِن إلى الأبد.
الا فليُسمح لي أن أكرّر أنّ مستقبل المسيحيين في العالم العربي لا يكون من خلال حماية عسكرية أجنبية. كما انّه ليس في التماهي مع الأنظمة الظالمة والاستبدادية. انّ شهادة المسيحيين، حتى لو رُفِعوا على الصليب، لن تكون الاّ في صالح العمل من اجل احترام حقوق الإنسان، التي هي بالنتيجة حقوق الله، وابرزها الحق في حرية المعتقد والعبادة، كما الحق في مشاركة جميع المكونات في إدارة الصالح العام المشترك، بقطع النظر عن اعداد ابنائها، انّما على اسس إسهاماتها العريقة في بناء الحضارة.
أوليس هذا ما ما يذهب اليه الإرشاد الرسولي للبابا المستقيل بنديكتوس السادس عشر، والذي وقّعه في لبنان: "الكنيسة في الشرق الأوسط"؟
اصحاب النيافة، اصحاب السعادة، السيدات والسادة، انّه لمن واجبنا، بدافعِ هذه الرسالة النبيلة، ومن اجل شرقِ اوسطٍ وعالمٍ اكثرَ انسانيّة، العمل لكي يواصل لبنان تحقيق كلّ ما، من دونه، لا يمكن ان يكون. اذ ذاك، وبالفرح الذي في ايماننا، نغدو قادرين على ان نعلي الصوت منشدين، معاً، طِلبَة كنيسة روما: نشيدَ انتصارِ الحياة على الموت هذا: سيأتي الله من لبنان! وإنّي اشكركم.
حاضرة الفاتيكان 24\11\2014