لقاء حواري يتناول موضوع التكامل بين مؤتمر الطائف وإعلان بعبدا
لقاء حواري يتناول موضوع التكامل بين مؤتمر الطائف وإعلان بعبدا
جمعية متخرجي المقاصد الاسلامية في بيروت بتاريخ 8/12/2022
كلمة الرئيس العماد ميشال سليمان
عندما نتَحدّثُ عن الجمهوريةِ ودولةِ لبنان الكبير والميثاقِ الوطني والاستقلال والهوية لا يَسعُنا إلا أن نَذكُرَ المقاصد بتاريخِها العريق الذي يُشبه حد التطابق تاريخَ لبنان بمراحلهِ الذهبية وبِنَكباتِه۔۔۔ فالتحية الى الرِجالاتِ الكِبار الذين أحبوا المقاصِد كمِثلِ حُبِهم للبنان۔۔۔
والشُكر لجمعيةِ المتخرجين لدعوتي لهذا اللقاء الحواري في هذه الظروفِ الصَعبة التي يمرُّ بها الوطن۔
سيداتي وسادتي،
منذُ ثلاثة عقود وثلاثة أعوام، (33 سنة)، أوقفَ إتفاقُ الطائفِ حروبَ الآخرين على أرضِ لبنان الكبير الذي يَدخُلُ مِئَويتَهُ الثانية. وعلى الرغمِ من الاستقرارِ النسبي الذي سادَ وانعكسَ إيجابًا على البلادِ والعباد، لم تجد الطبقةُ السياسيةُ في لبنان سبيلًا إلى تنفيذِ الإصلاحاتِ التي تَضَمنتْها وثيقةُ الوفاقِ الوطني، ولا الآلياتِ الدستورية التي رسَمَتْها.
أما وقد شكّلَ هذا التعثُرُ خِشيةً من تصاعدِ الاضطراباتِ وتجدُدِ الحربِ الأهلية، كان لا بدَ من الإتفاقِ على "إعلان بعبدا - 2012" وثيقةً متكاملةً مع دستورِ الطائف ومكمِّلةً للميثاقِ الوطني 1943.
تَضمنَ اتفاقُ الطائف الذي أصبحَ دستورَ البلادِ 4 عناوين رئيسية وهي:
-1 تحريرُ لبنان وبسط سيادةِ الدولة على أراضي الوطنِ كافة
-2 إلغاءُ الطائفيةِ السياسية مع الالتزامِ بميثاقِ العيشِ المشترك
-3 تأكيدُ عُروبةِ الهوية والانتِماءِ والالتزامِ بالمواثيقِ الدولية وأبرزُها عدم الانحياز وحريةِ الشعوب في تقريرِ مصيرها
-4 إقرارُ إصلاحاتٍ متعددة وآلياتٍ تَهدِفُ إلى ضمانِ حُسنِ تنفيذِ الاستحقاقاتِ الدستوريةِ والإدارية
نشَأت "المقاومة" كحاجةٍ في ظلِ تفكُكِ الدولة، وبفضلِ التفافِ الشعبِ من حولِها، لعِبَت الدورَ الأساسيَ في تحريرِ جنوبِ لبنان عام 2000 (خُطاب قسم الرئيس العماد ميشال سليمان 25 أيار 2008). ومع عودةِ الاستقرارِ إلى البلاد وإعادةِ توحيدِ المؤسسات، برزَت الحاجةُ الُملحَّةُ إلى إقرارِ استراتيجيةٍ وطنيةٍ للدفاعِ عن لبنان تستفيدُ من قُدراتِ "المقاومة" وتضعُ سلاحَها وإمكانياتَها تحت إمرةِ المؤسسةِ العسكرية، المولَجةِ حصرًا امتلاكِ عناصِر القوةِ لفترةٍ انتقاليةٍ تنتهي لدى تزويدِ الجيش اللبناني بالأسلحةِ والعتادِ التي تُمكنُه من وضعِ خُطةٍ للدِفاعِ عن الأرضِ والأجواءِ والمياهِ الدُولية (تصور الاستراتيجية الوطنية الدفاعية التي طَرَحَها الرئيس ميشال سليمان للمناقشة 2012).
ومن أجلِ تنفيذِ مُندرجاتِ الطائف، عَقدْتُ خلال ولايتي الرئاسية (2008-2014) أكثرَ من 20 جلسةِ حوارٍ برعايةِ الجامعةِ العربية طِبقًا لاتفاقِ القوى السياسية في الدوحة عَشيّة انتخابي (أيار 2008) وكان الموضوعُ الرئيسيُ فيها تعزيزَ سُلطاتِ الدولة وإقرار استراتيجيةٍ وطنيةٍ للدفاع.
عَقدْتُ هذه الجلسات بحضورِ رؤساءِ الجمهورية والمجلسِ النيابي ومجلس الوزراء الحاليين والسابقين وشخصياتٍ فكريةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ تَمثَلت بالكِتلِ النيايةِ المواليةِ والُمعارِضةِ والُمستقِلة، وحَرصْتُ على تشكيلِ هذه الهيئةِ وفقًا لتأليفِ الهيئةِ الوطنية لإلغاءِ الطائفية السياسية المنصوص عنها في المادة 95 من الدستور.
تزامنَ العددُ الأكبر مِن هذه الجلساتِ مع الأزمةِ الماليةِ العالمية واعتداءاتِ إسرائيل الهَمجية على غزّة والضِفة الغربية، ومع الربيع العربي - الدموي الذي جابَ البلدانَ العربية وحَطَّ في سوريا وتَطايَرت شظاياهُ إلى لبنان سنة 2011، فتركّزَ الجُهدُ على منعِ امتدادِ اللهيبِ إلى الداخلِ اللبناني.
تَرافقَ هذا المناخُ الُملبَّد بالغيومِ اقليميًا مع تَعثُّرٍ في تنفيذِ الاصلاحاتِ المنصوصِ عنها في الدستور، وحالَ دون إقرارِ الاستراتيجية الدفاعية. وبالتالي بَسْطِ سيادة الدولة وتعزيزِ سُلطتِها.
السيدات والسادة،
مع بِدء التورُطِ في الحربِ الدائرةِ في سوريا عن طريقِ دعمِ الطرفين الُمتصارعَين بالسلاحِ والرجالِ وامتدادِ هذا التورطِ من قِبَل "حزب الله" الى الصراعاتِ الاقليمية الأُخرى، ومع تأسيسِ بعض الخلايا الُمسلَّحة في الخارج، ظَهرَت الحاجةُ للاتفاقِ على إطارٍ سياسيٍ شاملٍ يَسمحُ بتجاوزِ العقباتِ الُمتعددةِ ويَهدِفُ إلى تَحصينِ وثيقةِ الوفاقِ الوطني.
هذه العقباتُ والعَثراتُ تَلخصَت بما يلي:
-1 استحالةُ إقرار استراتيجيةٍ دفاعيةٍ في ظُلّ التباينِ الكبيرِ بين أهدافِ "حزب الله" وإيران من جهة، وبين السياسةِ العامة للدولة الُمتمثِلةِ بالُمبادرةِ العربية للسلام من جهةٍ أخرى، وبدلًا من حلِّ الميليشيات وحَصرِ السلاحِ بيدِ الدولة، نَشأت ميليشياتٌ جديدةٌ وسرايا مسلحة تحت عُنوانِ التحرير.
-2 تَصاعُد نغمةِ الحفاظِ على حقوقِ الطوائفِ والُمطالبةِ باعتمادِ القوانين الانتخابية ذات الطابَع المذهبي، بدلًا من العملِ على تحضيرِ الأرضيةِ اللازمةِ لإلغاءِ قاعدةِ التمثيلِ الطائفي ضُمنَ دوائر المحافظات.
-3 تثبيتُ مذاهبِ المواقعِ الوظيفية والوِزارية بالارتِكازِ على الُمحاصصةِ بدلًا من الاعتمادِ على الاختصاصِ والكفاءةِ والمداورة، والامتِناعِ عن تحقيقِ استقلاليةِ السُلطة القضائية.
-4 العودةُ إلى الُمجاهرةِ بالفيدراليةِ أو باعتمادِ اللامركزيةِ المالية بدلًا من الذهابِ إلى تطبيقِ اللامركزية الإدارية الموسّعَة، مُقابل تصريحاتٍ مُتعدِدةٍ واضحةٍ تَعتَبِرُ لبنان واقعًا تحت النفوذِ الإيراني وواجهةً مُتقدِمةً لُمخطَطِ المواجهةِ الإيرانية نظرًا إلى ارتباطِ "حزب الله" تنظيميًا ولوجستيًا وعقائديًا وماليًا بإيران، ومُجاهرةِ قيادَتِه بهذا الانتِماء.
-5 بروزُ ممارساتٍ تُهددُ هويةَ لبنان وتضعَهُ في عزلةٍ دوليةٍ غير مسبوقة، الأمرُ الذي أثارَ مخاوِفَ وقَلق مُعظَمِ القِوى الُممثِلة للطوائفِ والمذاهب، وبالتالي الإحجام عن تَشكيلِ الهيئةِ الوطنية لإلغاءِ الطائفية السياسية والتمسُّكِ بالمناصفَةِ على كلِّ المستويات.
هذه العَثراتُ والعقَباتُ والمخاوِف، رسّخَت القناعةَ لديَّ وبالتشاورِ مع اللجنةِ التحضيرية للحوار التي شَكّلتُها في مطلعِ ولايتي الرئاسية، أنهُ لا غِنى عن إطارٍ سياسيٍ واسعٍ، فدَعوتُ إلى جلسةٍ بتاريخ 11/06/2012 بعد انقطاعٍ طويلٍ وبعد جولةٍ على الدولِ العربية، فكان "إعلان بعبدا" الذي أُقرَّ بإجماعِ الحاضرين وتأييدِ القوات اللبنانية الذي غابَ رئيسُها عن الجلسة.
وتنفيذًا لرغبةِ أعضاءِ هيئةِ الحوار الوطني تمَّ العملُ على اعتِمادِ هذا الإعلان وثيقةٍ رسمية لدى مجلسِ الأمن الدولي ولدى الجامعةِ العربيةِ والاتحاد الأوروبي، كما اعتَبرتْهُ بعض الدولِ الصديقة (فرنسا) مرجعيةً Reference تَستنِدُ إليها في علاقاتِها السياسيةِ مع لبنان وفي المحافلِ الدولية.
دعا "إعلان بعبدا" إلى تطبيقِ اتفاقِ الطائف والتمسُكِ بمُقدِمةِ الدستور وتعزيزِ سُلطةِ الدولةِ والقضاء ودعم الأجهزةِ الأمنية والتزامِ القراراتِ الدولية وفي مُقدِّمِها القرار 1701.
بالإضافةِ إلى ذلك، تميّزَ هذا الإعلانُ بالبندِ 12 الذي أقرَّ بضرورةِ تحييدِ لبنان عن سياسةِ المحاورِ والصِراعاتِ ما عدا ما يتعلقُ بالقضيةِ الفلسطينية وحقِ اللاجئين بالعودةِ وعدم التوطين.
كما حرِصَ البند 13 على ضبطِ الأوضاعِ على الحدودِ اللبنانية-السورية وعدم السماح بإقامةِ مِنطقةٍ عازلةٍ ومنعِ استعمالِ لبنان مقرًا أو ممرًا أو منطلقًا لتهريبِ السلاحِ والمسلحين.
وأختُتِمَ بوجوبِ استئنافِ الحوار ومُناقشةِ الاستراتيجيةِ الدفاعية بصورةٍ رئيسية.
وبالفِعل تمَ طرح تَصور رئيس الجمهورية للاستراتيجية كمُنطلَقٍ للنقاشِ في شهر أيلول 2012، وقد ارتكزَ على وضعِ قُدراتِ المقاومةِ واستعمالِ سلاحِها وأُمرتِه بتصرُفِ الجيش لفترةٍ انتقاليةٍ تنتهي مع تجهيزِه بالقُدرات التي تمَكِنهُ من وضعِ خطةٍ للدفاعِ عن الأراضي والأجواء والمياه اللبنانية.
وفي إطارِ تأييدِها ودعمِها لـ"إعلان بعبدا"، نشُطَت الأمم المتحدة لإقرارِ وإطلاقِ مجموعةِ الدعمِ الدولية للبنان ISG من مجلسِ الأمن، بُغية توفيرِ الدعمِ السياسي والعسكري والاقتصادي، وقدَمَت المملكةُ العربية السعودية تلبيةً لرغبتي، هِبةً غير مسبوقة للجيش اللبناني مِقدارها 3 مليارات دولار، لكن للأسف توقفَ الحوارُ وتَنكّرَ "حزب الله" لالتزامِه في "إعلان بعبدا" وتوغَلَ في الحربِ السورية، فتَعثرَت المسيرةُ الإصلاحيةُ وعملَ مع الفريقِ المؤيدِ لهُ على تعطيلِ انتخابِ رئيسٍ جديدٍ للبلادِ لمدة سنتين ونُصف السنة، سَعيًا لانتخابِ الرئيس الذي يدعَمُ سياستَهُ ويَغض الطَرفَ عن سلاحِهِ وعن حروبهِ في الدولِ العربية، وقد أدى قطعُ رأسِ الدولة (الشغور الرئاسي) إلى دخولِ "داعش" إلى جرودِ عرسال وخَطفِ عسكريين وذبحِهم.
السادة الكرام،
إذا كان اتفاقُ الطائف قد أوقفَ حروبَ الاخرينَ على أرضِ لبنان، فقد هَدفَ "إعلان بعبدا" ببنودِهِ كافةً الى مَنعِ احتِرابِ اللبنانيينَ في الخارجِ أو لأجل الخارج، سيّما بَندِ التحييد، الذي أصبحَ يُشكِّل الممرَ الالزامي إلى استِكمالِ تَطبيقِ الطائف، مثلَهُ مِثلَ إقرارِ الاستراتيجيةِ الدفاعية وتطبيقِ سائرِ البُنودِ التي أسلَفنا ذِكْرَها، وتشكيلِ هيئةِ إلغاءِ الطائفيةِ السياسية لِوضعِ خُطةٍ مَرحليةٍ لِتَنفيذِ المادة 95 من الدُستور، بعدَ طَمأنَةِ الحريصينَ على هويةِ لبنان.